وهناك معنى آخر : فهذا رسول الله ﷺ ينطق أسماء الحروف " ألِفْ لام رَاء "، وهو ﷺ الأمي بشهادة المعاصرين له بما فيهم خصومه، رغم أن القادر على نُطْق أسماء الحروف لا بُدَّ أن يكون مُتعلِّماً، ذلك أن الأمي ينطق مُسمَّيات الحروف ولا يعرف أسماءها، وفي هذا النطق شهادة بأن مَنْ علَّمه ذلك هو ربه الأعلى.
ويقول الحق سبحانه :﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ [ يوسف : ١ ].
كلمة " الكتاب " عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم.
ونجد كلمة " المبين "، أي : الذي يُبيِّن كل شيء تحتاجه حركة الإنسانِ الخليفةِ في الأرض، فإن بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم يتعرَّض له، فلا بد أن تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين لك ما غابَ عنك.
ويُروى عن الإمام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس ؛ ووجَّه المستشرق سؤالاً إلى الإمام فقال :
مادامتْ هناك آية في القرآن تقول :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ... ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] فَدعْنِي أسألك : كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح؟
فقال الإمام للمستشرق : انتظر. واستدعى الإمام خبازاً، وسأله : كم رغيفاً يمكن أن نصنعه من أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق : لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن، لا من الخباز. فردَّ الإمامُ : إذا كان القرآن قد قال :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ... ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] فالقرآن قال أيضاً :﴿ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٤٣ ].
لقد فَطِن الإمام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها الحياة ؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يوزِّع المواهب بين البشر ؛ ليصبح كل متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله.