ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال :﴿قد أخذ عليكم﴾ أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر ﴿موثقاً﴾ ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه - كما مضى - كان كأنه منه، فقال :﴿من الله﴾ أي أيمان الملك الأعظم : لتأتنه به إلا أن يحاط بكم ﴿ومن قبل﴾ أي قبل هذا ﴿ما فرطتم﴾ أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً، فإن زيادة " ما " تدل على إرادته لذلك ﴿في﴾ ضياع ﴿يوسف﴾ فلا يصدقكم أبوكم أصلاً، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً، وأصل معنى التفريط، : التقدم، من قوله ـ ﷺ ـ :" أنا فرطكم على الحوض ".
ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب " ما " النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه ﴿فلن أبرح﴾ أي أفارق هذه ﴿الأرض﴾ بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها ﴿حتى يأذن لي أبي﴾ في الذهاب منها ﴿أو يحكم الله﴾ أي الذي له الكمال كله ووثقنا به ﴿لي﴾ بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها ﴿وهو﴾ أي ظاهراً وباطناً ﴿خير الحاكمين﴾ إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها، فكأنه قيل : هذا ما رأى أن يفعل في نفسه، فماذا رأى لإخوته؟ فقيل : أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج، فقال :﴿ارجعوا إلى أبيكم﴾ أي دوني ﴿فقولوا﴾ أي له متلطفين في خطابكم ﴿ياأبانا﴾ وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا :﴿إن ابنك﴾ أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك ﴿سرق ﴾.


الصفحة التالية
Icon