البحث الثاني : أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه : أحدها : أنه قال :﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض﴾ [ فاطر : ١ ] ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال :﴿ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ﴾ [ فصلت : ١١ ] فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض.
وثانيها : أنه قال تعالى :﴿فِطْرَةَ الله التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾ [ الروم : ٣٠ ] مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب.
قال تعالى :﴿مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾ [ طه : ٥٥ ] وثالثها : أن الشيء إنما يكون حاصلاً عند حصول مادته وصورته مثل الكوز، فإنه إنما يكون موجوداً إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجوداً، وبإيجاد تلك الصورة صار موجداً لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجداً للكون لا يقتضي كونه موجداً لمادة الكوز، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجداً للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض، وإنما صار إلينا كونه موجداً لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن.
واعلم أن قوله :﴿فَاطِرَ السموات والأرض﴾ يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول : الواو تفيد الترتيب، ثم العقل يؤكده أيضاً، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها، أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه.
وأيضاً اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله :﴿الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والأرض﴾ [ الأنعام : ١ ].


الصفحة التالية
Icon