واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالماً بالإلهيات، وفي أن يكون ملكاً ومالكاً متصرفاً في الجسمانيات، وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب، وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله، وما كان حصوله للإنسان ممتنعاً لزم أن يبقى الإنسان أبداً في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت، فحينئذ يتمنى الموت.
والسبب الثاني : لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة : أحدها : أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها : أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات.
وثالثها : أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات.
والسبب الثالث : وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها، وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني.