إذا ثبت هذا فنقول : إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة.
وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون، إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة، أو آثار الشقاوة قل أو كثر، فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى :﴿لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ بالملائكة.
القول الثاني : وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد : أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل، والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء، فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى، والمعقب العون، لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره، وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة، والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعده :﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾.
أما قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد.