وهذا المَثَل يدركه أهل البادية ؛ لأنها صحراء وجبال ووديان ؛ فماذا عن مَثَلٍ يناسب أهل الحضر؟
ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم ؛ فيقول :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ... ﴾ [ الرعد : ١٧ ]
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة ؛ تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن إلى سائل مَصْهور ؛ ويطفو فوق هذا السائل الزَّبَد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل ؛ ويبقى المعدن صافياً من بعد ذلك.
والصَّانع يضع الذهب في النار لِيُخلِّصه من الشوائب ؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوِّي صلابته ؛ أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه " عيار ٢٤ "، والأقل درجة هو الذهب من " عيار ٢١ "، والأقل من ذلك هو الذهب من " عيار ١٨ ".
والذهب الخالص النقاء يكون ليِّناً ؛ لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحُلي.
وهذا هو المَثَلُ المناسب لأهل الحضر ؛ حين يصنعون الحلي، وهم أيضاً يصنعون أدواتٍ أخرى يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلاً، وهي لابُدَّ أن تكون من الحديد الصُّلْب ؛ ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصَّلابة ؛ فإنْ أراد الحدَّاد أن يصنع سيفاً فلابد أنْ يختار له من الحديد نوعيةً تتناسب مع وظائف السيف.
والزَّبَد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح الجبال ؛ فضلاً عن غسيل مَجْرى النهر الذي ينزل فيه ؛ وعادة ما يتراكم هذا الزَّبَد على الحَوافّ ؛ ليبقى الماء صافياً من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل مثلاً فأنت تجد الشوائب، وقد ترسبتْ على جانبي النهر وحَوافّه، وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر ؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب، وهو طافٍ فوق الأمواج ؛ لِتُلقيه الأمواج على الشاطئ.


الصفحة التالية
Icon