قال ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر ألاّ يُسأل سواه ؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العبّاد سمع أن أناساً بايعوا رسول الله ﷺ ألاّ يسألوا أحداً شيئاً، الحديث ؛ فقال أبو حمزة : رب إن هؤلاء عاهدوا نبيّك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألاّ أسأل أحداً شيئاً ؛ قال : فخرج حَاجًّا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق ؛ فلما حلّ في قعره قال : أستغيث لعل أحداً يسمعني.
ثم قال : إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيراً إذ مرّ بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا : إنه لينبغي سدّ هذا البئر ؛ ثم قطعوا خشباً ونصبوها على فم البئر وغطّوها بالتراب ؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال : هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال : والله! لا أخرج منها أبداً ؛ ثم رجع إلى نفسه فقال : أليس قد عاهدت مَن يراك؟ فسكَتَ وتوكّل، ثم استند في قعر البئر مفكراً في أمره فإذا بالتراب يقع عليه ؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول : هات يدك! قال : فأعطيته يدي فأقلّني في مرة واحدة إلى فم البئر، فخرجت فلم أر أحداً ؛ فسمعت هاتفاً يقول : كيف رأيت ثمرة التوكل ؛ وأنشد :
نَهانِي حَيائِي منكَ أن أكشفَ الهوى...
فأغنيتني بالعِلْمِ منكَ عن الكَشْف
تَلَطَّفْتَ في أمري فأبديت شاهدي...
إلى غائبي واللّطفُ يُدرَكُ باللُّطْف
تَراءيتَ لي بالعلم حتى كأنما...
تُخَبِّرُني بالغيب أنّكَ في كفِّ
أَرانِي وبي من هَيْبَتي لَكَ وَحْشَةٌ...
فتؤنِسُني باللُّطف مِنكَ وبالعطف
وتُحيِي مُحِبًّا أنت في الحبِّ حَتْفُهُ...
وذا عَجبٌ كيف الحياةُ مَعَ الْحَتْفِ
قال ابن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا.