(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ; ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثتمن فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء)..
(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء. ذلك هو الضلال البعيد)..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة، وتتسقان مع ظل إبراهيم: أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة. وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة.. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي، ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب !
ونبصر فنشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية، في صعيد واحد، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان:


الصفحة التالية
Icon