ونظيره قوله تعالى :﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله﴾ [ التوبة : ٣٢ ] فقوله :﴿ويأبى الله﴾ في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك، لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ونظيره أيضاً قوله :﴿لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأرحام﴾ [ الحج : ٥ ] ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه، ومثله قول الشاعر :
يريد أن يعربه فيعجمه.. إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى :﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ ثم قال :﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ﴾ ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى.
أما قوله ثانياً : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك ؟ فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً.
وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه.
وأما قوله ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.