والتسخير معناه قَهْر الشيء ليكون في خدمة شيء آخر. وتسخير الفُلْك قد يثير في الذهن سؤالاً : كيف يُسخِّر الله الفلك، والإنسان هو الذي يصنعها؟
ولكن لماذا لا يسأل صاحب السؤال نفسه : ومن أين نأتي بالأخشاب التي تصنع منها الألواح التي نصنع منها الفُلْك؟ ثم مَنِ الذي جعل الماء سائلاً ؛ لتطفو فوقه السفينة؟ ومَنِ الذي سيَّر الرياح لتدفع السفينة؟
كل ذلك من بديع صنُعْ الله سبحانه.
وكلمة " الفلك " تأتي مرة ويُراد بها الشيء الواحد ؛ وتأتي مرة ويُراد بها أشياء ؛ فهي تصلح أن تكون مفرداً أو جمعاً.
والمثل هو قول الحق سبحانه :﴿ والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس... ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
وكذلك قال في قصة نوح عليه السلام :﴿ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا... ﴾ [ هود : ٣٧ ].
وبعض العلماء يقولون : إذا عاد ضمير التأنيث عليه ؛ تكون جَمْعاً ؛ وإذا عاد عليها بالتذكير تكون مفرداً.
ولكنِّي أقول : إن هذا القول غَيْر غالب ؛ فسبحانه قد قال عن سفينة نوح وهي مفرد :﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا.. ﴾ [ القمر : ١٤ ].
ولم يَقُل :" يجري بأعيننا "، وهكذا لا يكون التأنيث دليلاً على الجمع.
ويتابع سبحانه :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار... ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ].
ونفهم بطبيعة الحال أن النهر عّذْب الماء ؛ والبحر ماؤه مالح. وسبحانه قد سخَّر لنا كل شيء بأمره، فهو الذي خلقَ النهار عّذْب الماء، وجعل له عُمْقاً يسمح في بعض الأحيان بمسير الفلك ؛ وأحياناً أخرى لا يسمح العمق بذلك.
وجعل البحر عميقَ القاع لِتمرُق فيه السفن، وكل ذلك مُسخَّر بأمره، وهو القائل سبحانه :﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ... ﴾ [ الشورى : ٣٣ ].
أي : أنه سبحانه قد يشاء أن تقف الرياحُ ساكنة ؛ فتركد السفن في البحار والأنهار.