ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال :﴿وتغشى﴾ ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلاً لإفهام الإهانة فقال :﴿وجوههم النار﴾ أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى ؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبراً بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما : ب ﴿ليجزي الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿كل نفس﴾ طائعة أو عاصية.
ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء - التي ستذكر في " حم المؤمن " وقال :﴿ما كسبت﴾ والجزاء : مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر ؛ والكسب : فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله.
ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال :﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة المطلقة ﴿سريع الحساب﴾ أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن.
ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنواناً لجميع القرآن فقال :﴿هذا﴾ أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴿بلاغ﴾ أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال ﴿للناس﴾ ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة " بلغ " بأي ترتيب كان - تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشىء عن الضعف :


الصفحة التالية
Icon