وأما الكثيف الذي نزل إلى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن اللّه تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد للّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني.
وكان نوح عليه السلام يقول الحمد للّه الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه.
واللّه أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال اللّه لا تعلل، ولعل اللّه تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات اللّه تعالى، وكيفية
تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه :
حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما.