وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكل ما كان كسبياً فهو مسبق بعلوم أخرى، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وكل ذلك محال، وهذا سؤال قوي مشكل.
وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا.
ثم إنها حدثت وحصلت، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية.
قلنا : هذه المقدمة ممنوعة، بل نقول : أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر، فإذا أبصر الطفل شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر، وكذلك إذا سمع شيئاً مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس، فيصير حصول الحواس سبباً لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين : أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجباً تاماً في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو، وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.
والحاصل : أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها.