وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس.
فلهذا السبب قال تعالى :﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات.
وقال المفسرون :﴿وجعل لكم السمع﴾ لتسمعوا مواعظ الله ﴿والأبصار﴾ لتبصروا دلائل الله، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب.
قال الزجاح : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد، وما قيل فيه فئدان كما قيل : غراب وغربان.
وأقول : لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيهاً على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿وجعل لكم السمع والأبصار﴾ عطف على قوله :﴿أخرجكم﴾ وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج عن البطن، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب : أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ؛ وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال، والله أعلم.
أما قوله :﴿ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي :﴿ألم تروا﴾ بالتاء والباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار.
المسألة الثانية :