وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه، فكان الإنعام بتحصيله عظيماً، ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال :﴿وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم﴾ السرابيل القمص واحدها سربال، قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين : أحدهما : ما يكون واقياً من الحر والبرد.
والثاني : ما يتقى به عن البأس والحروب، وذلك هو الجوشن وغيره، وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل.
فإن قيل : لم ذكر الحر ولم يذكر البرد ؟
أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال :﴿ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها﴾ [ النحل : ٨٠ ] وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان إلفتهم بها أشد، واعتيادهم للبسها أكثر، ولذلك قال :﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد﴾ [ النور : ٤٣ ] لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه.
والوجه الثاني : في الجواب قال المبرد : إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر، قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر، فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضاً البرد، وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض، فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعاً للشعور بالآخر، كان ذكر أحدها مغنياً عن ذكر الآخر.
والوجه الثالث : قال الزجاج : ما وقى من الحر وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر.
فإن قيل : هذا بالضد أولى، لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة، وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكليف زائد.


الصفحة التالية
Icon