اعلم أنه تعالى لما حذر في الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق، حذر في هذه الآية فقال :﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله ﷺ عن نقض عهده، لأن هذا الوعيد وهو قوله :﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ﷺ على الإيمان به وشرائعه.
وقوله :﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، ومحنة بعد نعمة، فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة، ويدل على هذا قوله تعالى :﴿وَتَذُوقُواْ السوء﴾ أي العذاب :﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾ أي بصدكم :﴿عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد، ثم أكد هذا التحذير فقال :﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعده الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال :﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ وفيه بحثان :