البحث الأول : الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال : إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً، فإن قلنا : إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا : إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى :﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
البحث الثاني : أن قوله :﴿وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع.
وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران : أحدهما : أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته.
والثاني : أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال :﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ﴾ أي على ما التزموه من شرائع الإسلام ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات، فلهذا قال :﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٠ صـ ٨٨ ـ ٩٠﴾


الصفحة التالية
Icon