ولما كان من يرجع إلى الظلمات بعد خروجه منها إلى النور جديراً بالتعجب منه، كان كأنه قيل : لم يفعلون، أو لم يفعل بهم ذلك؟ فقال تعالى :﴿ذلك﴾ الارتداد أو الوعيد العظيم ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم ﴿استحبوا﴾ أي أحبوا حباً عظيماً ﴿الحياة الدنيا﴾ أي الدنيئة الحاضرة الفانية، فآثروها ﴿على الآخرة﴾ الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمن من الضيق والكافر من السعة ﴿و﴾ بسبب ﴿أن الله﴾ أي الملك الذي له الغنى الأكبر ﴿لا يهدي القوم الكافرين﴾ الذين علم استمرارهم عليه، بل يخذلهم ويسلط الشيطان عليهم يحتالهم عن دينهم.
ولما كان استمرارهم على الكفر أعجب من ارتدادهم، أتبعه سببه فقال تعالى :﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الذين طبع﴾ أي ختم ختماً هو كفيل بالعطب ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ﴿على قلوبهم﴾ ولما كان التفاوت في السمع نادراً، وحده فقال تعالى :﴿وسمعهم وأبصارهم﴾ فصاروا - لعدم انتفاعهم بهذه المشاعر - كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ﴿وأولئك﴾ أي الأباعد من كل خير ﴿هم الغافلون﴾ أي الكاملو الغفلة ؛ ثم أتبع ذلك جزاءهم عليه فقال تعالى :﴿لا جرم﴾ أي لا شك ﴿أنهم في الآخرة هم﴾ أي خاصة ﴿الخاسرون﴾ أي أكمل خسارة لأنهم خسروا رأس المال وهو نفوسهم، فلم يكن لهم مرجع يرجعون إليه.
ولما قدم الفاتن والمفتون، أتبع ذلك ذكر حكمهما على القراءتين فقال تعالى : بحرف التراخي إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك :﴿ثم إن ربك﴾ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه أو قلبه ﴿للذين هاجروا﴾ أهل الكفر بالنزوح من بلادهم توبة إلى الله تعالى مما كانوا فيه.


الصفحة التالية
Icon