وفي تقييد الأمر بقوله سبحانه ﴿ أَعْلَمُ بالمهتدين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ حث على العفو تعريضاً لما في "إن" الشرطية من الدلالة على عدم الجزم بوقوع ما في حيزها فكأنه قيل : لا تعاقبوا وان عاقبتم الخ كقول طبيب لمريض سأله عن أكل الفاكهة ان كنت تأكل الفاكهة فكل الكمثري، وقد صرح بذلك على الوجه الآكد فقيل :﴿ وَلَنْ صَبَرْتُمْ ﴾ أي عن المعاقبة بالمثل ﴿ لَهُوَ ﴾ أي لصبركم على حد ﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ] ﴿ خَيْرٌ ﴾ من الانتصار بالمعاقبة ﴿ للصابرين ﴾ أي لكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل مدحاً لهم وثناء عليهم بالصبر، وفيه أرشاد إلى أنه إن صبرتم فهو شيمتكم المعروفة فلا تتركوها إذاً في هذه القضية أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة فهو على حد من قتل قتيلاً وهو الظاهر من اللفظ، وفيه ترغيب في الصبر بالغ، ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل، والمراد بالصابرين جنسهم فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً، ثم إنه تعالى أمر نبيه ﷺ صريحاً بما ندب إليه غيره تعريضاً من الصبر لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه سبحانه ووثوقه به تعالى فقال تعالى :
﴿ واصبر ﴾ على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من أعراضهم بعد الدعوة عن الحق بالكلية ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابساً ومصحوباً بشيء من الأشياء إلا بذكر الله تعالى والاستغراق بمراقبة شؤونه والتبتل إليه سبحانه بمجامع الهمة، وفيه من تسلية النبي ﷺ وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جليلة قاله شيخ الإسلام.


الصفحة التالية
Icon