وقُيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه، كانت مظّنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في الموعظة أن تكون حسنة، أي بِإلانَة القول وترغيب الموعوظ في الخير، قال تعالى خطاباً لموسى وهارون :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى ﴾ [ سورة طه : ٤٣ ] وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال : وعظَنا رسولُ الله موعظة وجِلَت منها القلوب وذَرَفَتْ منها العيون الحديث.
وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلّم يهتمّ بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة.
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحقّ فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة، ولكنها جعلت قسيماً لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها.
وإذ قد كانت مجادلة النبي لهم من ذيول الدعوة وُصفت بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة.
وقد كان المشركون يجادلون النبي قصداً لإفحامه، وتمويهاً لتغليطه نبّه الله على أسلوب مجادلة النبي إيّاهم استكمالاً لآداب وسائل الدعوة كلها.
فالضمير في وجادلهم } عائد إلى المشركين بقرينة المقام لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبي ﷺ ولكن يتلقّون منه تلقّي المستفيد والمسترشد.
وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة إذ لم يقل : والمجادلةِ الحسنة، بل قال :﴿ وجادلهم ﴾، وقال تعالى أيضاً :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾
[ سورة العنكبوت : ٤٦ ].


الصفحة التالية
Icon