وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدّلة المسلّمة بين المتحاجَيْن أو من الأدّلة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة.
وقد يكون مما يُقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة.
وسمّاه حكماء الإسلام جدلاً تقريباً للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾.
هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدّعوة بعد الإعلام بأن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم.
فلما كان التّحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجاً لبيان الحكمة في ذلك بيّنت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس وليس ذلك لِغير الله من الناس فما عليك إلا البلاغ، أي فلا تيْأس من هدايتهم ولا تتجاوز إلى حدّ الحزن على عدم اهتدائهم لأن العلم بمن يهتدي ومن يضلّ موكول إلى الله وإنما عليك التبليغ في كل حال.
وهذا قول فصل بين فريق الحقّ وفريق الباطل.
وقُدم العلم بمن ضَلّ لأنه المقصود من التعليل لأن دعوتهم أوكد والإرشاد إلى اللّين في جانبهم بالموعظة الحسنة والمجادلة الحسنى أهمّ، ثم أتبع ذلك بالعلم بالمهتدين على وجه التكميل.
وفيه إيماء إلى أنه لا يدري أن يكون بعض من أيس من إيمانه قد شرح الله صدره للإسلام بعد اليأس منه.
وتأكيد الخبر بضمير الفصل للاهتمام به.
وأما ﴿ إنّ ﴾ فهي في مقام التعليل ليست إلا لمجرّد الاهتمام، وهي قائمة مقام فاء التفريع على ما أوضحه عبد القاهر في دلائل الإعجاز ؛ فإن إفادتها التأكيد هنا مستغنى عنها بوجود ضمير الفصل في الجملة المفيدة لقصر الصّفة على الموصوف، فإن القصر تأكيد على تأكيد.


الصفحة التالية
Icon