ولما أخبر عن نفسه الشريفة بما يشير إلى التوسعة على من يريد من أهل الباطل، أخبر بأنه قضى بذلك في الأزل تفضلاً فقال تعالى :﴿كلاًّ﴾ أي من الفريقين : مريد الدنيا ومريد الآخرة ﴿نمد﴾ أي بالعطاء ؛ ثم أبدل من ﴿كلاًّ﴾ قوله تعالى :﴿هؤلاء﴾ أي الذين طلبوا الدنيا نمد ﴿وهؤلاء﴾ الذين طلبوا الآخرة نمد ﴿من عطاء ربك﴾ أي المحسن إليه بجميع قضائه، إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لهو ولعب، وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه ويعلي كلمته ﴿وما كان عطاء ربك﴾ أي الموجد لك المدبر لأمرك ﴿محظوراً﴾ أي ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر، بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً، ولم يكن لهم شغل سوى ذلك، لأعياهم ولم يقدروا عليه، فسبحان الجواد الواسع المعطي المانع، ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا، فقال تعالى آمراً بالاعتبار :﴿انظر﴾ وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى :﴿كيف فضلنا﴾ أي بما لنا من العظمة القاهرة ﴿بعضهم على بعض﴾ في هذه الحياة الدنيا بالعطاء، فصار الفاضل يسخر المفضول، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه، مع أن رزق الله - وهوعطاءه - بالنسبة إلى الكل على حد سواء، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك، وهو من تنزه عن النقص وحاز على كمال، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه.


الصفحة التالية
Icon