ولما رغب في البذل، وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط، أتبع ذلك قوله تعالى :﴿ولا تبذر﴾ بتفريق المال سرفاً، وهو بذله فيما لا ينبغي، وفي قوله ﴿تبذيراً﴾ تنبيه على أن الارتقاء نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير ؛ والتبذير : بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك، وقد سئل ابن مسعود ـ رضى الله عنهم ـ عن التبذير فقال : إنفاق المال من غير حقه، وعن مجاهد ـ رضى الله عنهم ـ : لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً.
ثم علل ذلك بقوله :﴿إن المبذرين﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿كانوا﴾ أي كوناً هم راسخون فيه ﴿إخوان الشياطين﴾ أي كلهم، البعيدين من الرحمة، المحترقين في اللعنة، فإن فعلهم فعل النار التي هي أغلب أجزائهم، وهو إحراق ما وصلت إليه لنفع وغير نفع، فإذا لم يجدوا أخذوا ما ليس لهم، والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم وتابع أمرهم : هو أخوهم.
ولما كان الاقتصاد أدعى إلى الشكر، والتبذير أقود إلى الكفر، قال تعالى :﴿وكان الشيطان﴾ أي هذا الجنس البعيد من كل خير، المحترق من كل شر ﴿لربه﴾ أي الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته ﴿كفوراً﴾ أي ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة، ونعمه الباهرة، مع الحجة.