الثاني : يمكن أن يقال هذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلته خبر، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار، وإنما حذف حرف الاستفهام لأن حصوله في قوله ﴿أرأيتك﴾ أغنى عن تكراره.
والوجه الثالث : أن يكون ﴿هذا﴾ مفعول ﴿أرأيت﴾ لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي، هذا هو حقيقة هذه الكلمة، ثم قال تعالى حكاية ( عنه ) ﴿لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن كثير ﴿لئن أخرتني إلى يوم القيامة﴾ بإثبات الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف ونافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف.
البحث الثاني : في الاحتناك قولان، أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال : أحتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية.
والثاني : أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، وقال أبو مسلم : الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه.
فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء.
وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.
البحث الثالث : قوله :﴿إلا قليلاً﴾ هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ [ الإسراء : ٦٥ ] فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم ؟ قلنا فيه وجوه.
الأول : أنه سمع الملائكة يقولون :﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ [ البقرة : ٣٠ ] فعرف هذه الأحوال.
الثاني : أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزماً (١) فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.

(١) هذا الوجه يتعارض مع نص الآية الكريمة وهي قول اللّه تعالى لملائكته المكرمين : فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ [سورة الحجر : ٢٩، ٣٠]. فالآية تنص على أن الأمر بالسجود والسجود كان قبل الوسوسة ولو أن الوسوسة كانت قبل السجود، لترتب عليه أن يكون الملائكة كلهم أجمعون قد سجدوا لآدم بعد المعصية وهو أمر لا يليق ولا يتصور فانتفى هذا الوجه.


الصفحة التالية