البحث الأول : أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير (١)
إذا عرفت هذا فنقول في قوله :﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله :﴿قَيِّماً﴾ إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب :﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ﴾ [ البقرة : ٢ ] فقوله :﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله :﴿هُدًى لّلْمُتَّقِينَ﴾ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله :﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ قائم مقام قوله :﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ وقوله :﴿قَيِّماً﴾ قائم مقام قوله :﴿هُدًى لّلْمُتَّقِينَ﴾ وهذه أسرار لطيفة.
البحث الثاني : قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد منه وجوه : أحدها : نفي التناقض عن آياته كما قال :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [ النساء : ٨٢ ].
وثانيها : أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها ألبتة.
وثالثها : أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى :﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾.

(١) يظهر أنه وقع في العبارة تحريف ولعل الصواب أن يقال : بأن يفيض على غيره الكمال. وهذا نظير قوله فيما سبق في نفس هذا البحث : ثم يكون مكملا لغيره «الصاوي».


الصفحة التالية
Icon