وقلنا : إن الحق سبحانه حينما يُحدِّثنا عن شيء غيبيّ يُحدِّثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ، واللغة التي نتكلم بها، يُوجَد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدالّ عليه، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فإنْ نُطِق اللفظ نفهم معناه. فإذا كانت الأشياء التي يُحدِّثنا الله عنها غيباً كما قال عنها رسول الله ﷺ :" فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر "
إذن : فمن أين نأتي بالألفاظ الدَّالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يُعبِّر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا، لكن يعطيها الوصف الذي يُميّزها عن جنة الدنيا، كما جاء في قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ.. ﴾ [ محمد : ١٥ ]
ونحن نعرف النهر، ونعرف الماء، لكن يأتي قوله :﴿ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ ليميز ماء الآخرة عن ماء الدنيا، وكذلك في :﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ [ محمد : ١٥ ]
فالخمر في الدنيا معروفة ؛ لكنها ليست لذة لشاربها، فشاربها يبتلعها بسرعة ؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة ؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميَّزها بأنها لذة، وخَمْر الدنيا ليست كذلك ؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة، فبها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، والعين إدراكاتها أقلّ من إدراكات الأذن ؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك، ثم يقول :" ولا خطر على قلب بشر " فوسَّع دائرة ما في الجنة، مما لا نستطيع إدراكه.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى.. ﴾ [ محمد : ١٥ ]


الصفحة التالية
Icon