قال : فردّها عليه وكتب إليه : يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن يكون سؤالك إيّاي هَزْلاً أو ردّي عليك بَذْلاً، وما أرضاها لك، فكيف ( أرضاها ) لنفسي! إن موسى بن عِمران لما وَرَد ماءَ مَدْين وجد عليه رِعاءً يَسقون، ووجد من دونهم جاريتين تذودان ( فسألهما، فقالتا : لا نَسقي حتى يُصدر الرِّعاء وأبونا شيخ كبير ) ؛ فسقى لهما ثم تولّى إلى الظلّ فقال : رَبّ إني لِمَا أنزلتَ إليّ من خير فقير.
وذلك أنه كان جائعاً خائفاً لا يأمن، فسأل ربّه ولم يسأل الناس.
فلم يفطن الرعاء، وفطنت الجاريتان.
فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله.
فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام : هذا رجل جائع.
فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه.
فلما أتته عظّمته وغطّت وجهها وقالت : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ؛ فشقّ على موسى حين ذكرت ﴿أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ ولم يجد بُدًّا من أن يتبعها ؛ لأنه كان بين الجبال جائعاً مستوْحشاً.
فلما تبعها هبّت الريح فجعلت تصفّق ثيابها على ظهرها فتصِفُ له عجيزتها وكانت ذات عَجُز وجعل موسى يُعرِض مَرّة ويغضّ أخرى ؛ فلما عِيل صبره ناداها : يا أَمَةَ الله كوني خلفي، وأرِيني السّمت بقولك.
فلما دخل على شُعَيب إذ هو بالعَشاء مُهَيَّأ ؛ فقال له شعيب : اجلس يا شاب فتعشّ ؛ فقال له موسى عليه السلام : أعوذ بالله! فقال له شعيب : لِم! أمَا أنت جائع ؟ قال : بلى، ولكني أخاف أن يكون هذا عِوضاً لمَا سقيتُ لهما، وأنا مِن أهل بيت لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً.
فقال له شعيب : لا يا شابّ، ولكنها عادتي وعادة آبائي : نَقْرِي الضيف ونطعم الطعام ؛ فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه المائة دينار عوضاً لما حدّثتُ فالميتة والدّمُ ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلّ من هذه، وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء ؛ فإن ساوَيْت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.