وقال القرطبى :
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ﴾
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى :﴿ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب ﴾ أي أشرف عليهم من المصلى.
والمحراب أرفع المواضع، وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي.
واختلف الناس في اشتقاقه ؛ فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات.
وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحَرَب ( بفتح الراء ) كأن ملازمه يلقى منه حرباً وتعباً ونصباً.
الثانية : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم في صلاتهم.
وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره متمسكاً بقصة المنبر.
ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعَلَّل أصحابه المنع بخوف الكبْر على الإمام.
قلت : وهذا فيه نظر ؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أَمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا أو يُنهَى عن ذلكا قال : بلى ؛ قد ذكرت حين مددتني.
وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدّثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدّم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدّم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله ﷺ يقول :" إذا أَمَّ الرجلُ القوم فلا يقم في مكان أرفعَ من مقامهم " أو نحو ذلك ؛ فقال عمّار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ.