فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال : إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ. واحتج من قال : بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها :﴿ فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً ﴾ فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي، مع أنه تعالى قال :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ [ مريم : ٢٩ ] أي اشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمره فهذه إشارة مفهمة، وقد فهمها قومها فأجابوها جواباً مطابقاً لفهمهم ما أشارب به :﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٩ ]، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تلكم إنسياً. فالآية صريحة في أنا لكلام باللفظ يخل بنذرها، وأن الإشارة ليست كذلك، فقد جاء الفرق صريحاً في القرآن بين اللفظ والإشارة، وكذلك قوله تعالى ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ [ آل عمران : ٤١ ] فإن اله جعل له آية على ما بُشر به وهي منعه من الكلام، مع أنه لم يمنعمن الإشارة بدليل قوله :﴿ إلا رمزاً ﴾، وقوله :﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ ﴾ [ مريم : ١١ ] الآية. فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام، لأن استثناءه تعالى قوله ﴿ إلا رمزاً ﴾ من قوله ﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ﴾ يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثنى منه، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال.


الصفحة التالية
Icon