ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن، قال :﴿ومساكنكم﴾ أي التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء من عبادي بما أتقنتم من بنائها، وأوسعتم من فنائها، وعليتم من مقاعدها، وحسنتم من مشاهدها ومعاهدها ﴿لعلكم تسألون﴾ في الإيمان بما كنتم تسألون، فتابوا بما عندكم من الأنفة ومزيد الحمية والعظمة، أو تسألون في الحوائج والمهمات، كما يكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم البهية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا على تؤدة وأحوال مهل تخالف أحوال الراكض العجل ﴿أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ].
ولما كان كأنه قيل : بما أجابوا هذا المقال؟ قيل ﴿قالوا﴾ حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس :﴿يا ويلنا﴾ إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب، وترفقاً له كما يقول الشخص لمن يضربه : يا سيدي - كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم، لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب ؛ ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم :﴿إنا كنا﴾ أي جبلة لنا وطبعاً ﴿ظالمين﴾ حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله ﴿فما﴾ أي فتسبب عن إحلالنا ذلك البأس بهم أنه ما ﴿زالت تلك﴾ أي الدعوة البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم : يا ويلنا ﴿دعواهم﴾ يرددونها لا يكون دعوى لهم غيرها، لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم ﴿حتى جعلناهم﴾ بما لنا من العظمة ﴿حصيداً﴾ كالزرع المحصود.
ولما كان هذا وما بعده مثل حلو حامض في الزمان، جعلا خبراً واحداً ليكون " جعل " مقتصراً على مفعولين فقال :﴿خامدين﴾ أي جامعين للانقطاع والخفوت، لا حركة لهم ولا صوت، كالنار المضطرمة إذا بطل لهيبها ثم جمرها وصارت رماداً، ولم يك ينفعهم إيمانهم واعترافهم بالظلم وخضوعهم لما رأوا بأسنا. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٥ صـ ٧٠ ـ ٧٢﴾