فإن قلت : فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية، والملة الإسلامية؟ قلت : قد ثبت عن النبيّ ﷺ من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عيناً أو قيمة.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبيّ ﷺ :" جرح العجماء جبار " قياساً لجميع أفعالها على جرحها.
ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار، لأنه في مقابلة النص، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن ربّ الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار.
ويجاب عنه بحديث البراء.
ومما يدل على أن هذين الحكمين من داود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد.
قوله :﴿ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين، وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدّم على صدقهما على غيرها، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه، ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم، من عدم كون حكم داود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده.
ولما مدح داود وسليمان على سبيل الاشتراك، ذكر ما يختص بكل واحد منهما، فبدأ بداود فقال :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدُ الجبال يُسَبّحْنَ ﴾ التسبيح إما حقيقة أو مجاز، وقد قال بالأوّل جماعة وهو الظاهر.