لذلك ؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول ﷺ لَوْناً من الجدل في قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ سبأ : ٢٥ ].
فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي : ففي خطابهم يقول :﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا.. ﴾ [ سبأ : ٢٥ ] وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول :﴿ وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ سبأ : ٢٥ ] ولم يقُلْ هنا : تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق.
ولما اتهموا رسول الله ﷺ بالجنون ردَّ عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق، فسألهم : ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق : استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. ﴾ [ سبأ : ٤٦ ].
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟
ولما قالوا : كذاب، جادلهم القرآن :
﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يونس : ١٦ ].
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا : إنها عبقرية كانت عند محمد، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله : أبوه مات قبل أنْ يوُلد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً.


الصفحة التالية
Icon