وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات (١) :﴿وَإِذْ قُلْتُمْ﴾ لموسى القلب ﴿لَن نُّؤْمِنَ﴾ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان ﴿فَأَخَذَتْكُمُ﴾ [ البقرة : ٥٥ ] صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي وأنتم تراقبون أو تشاهدون ﴿ثُمَّ بعثناكم﴾ [ البقرة : ٥٦ ] بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل، ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ﴾ غمام تجلي الصفات لكونها حجب الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره.
﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ﴾ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك ( السلوى ) وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى ﴿كُلُواْ﴾ أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين.
_________
(١) التفسير الإشارى لا يمكن حمله على الحقيقة.