و جواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ روايه، ولم يختلّ فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضَعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذّاً. وهذه جملة تفاصيلها تُدرَك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة"
قلت: ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن الغَفَلَةَ عن هذه النفيسة قد أوقعت كثيراً من العلماء، لا سيّما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح، ألا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغتراراً بكَثرة طُرقها، وذهولاً منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها، بل لا تزيده إلا وَهناً على وهن، ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة، فإن طرقه كلها ضعيفة جداً كما تقدم، فلا يتقوى بها أصلاً.
لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى، هل يَتَقَوّى الحديث بها، أم لا؟
فاعلم أنها كلها مرسلة، وهي على إرسالها معلة بالضعف والجهالة كما سبق تفصيلها، سوى الطرق الأربعة الألى منها (رقم ١ و٢ و٣ و٥) فهي التي تستحق النظر، لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة، وتقويته لها بها، وهذا مما نخالفه فيه، ولا نوافقه عليه، وبيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزه مفيدة إن شاء الله تعالى، وهي:
ضعف الحديث المرسل:
الوجه الثاني: وهو يحتوي على تحقيق أمرين أساسيين:
الأول: أن الحديث المُرسَل، ولو كان المُرسِل ثقة، لا يُحتج به عند أئمة الحديث، كما بيّنه ابن الصلاح في "علوم الحديث" وجزم هو به فقال (ص٥٨):