ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ « الخلق » :« وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.. »
أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة فى مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. فى عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل. « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً »..
والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى :
« وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً » (٨ ـ ١١ النبأ).
قوله تعالى :« ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.. فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً.. » فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. »
تقصّ هذه الآية قصة « خلق » الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها اللّه سبحانه وتعالى فى قرار مكين.. هو الرّحم.
وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين :
فأولا : جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. « خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ».
وثانيا : جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ « جعل »..