فمعنى ﴿ فَكَسَوْنا ﴾ أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح :" إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ " الحديث، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى :﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر ﴾ لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء.
وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء بـ ( ثم ) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل بـ ( ثم ).
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً، وفي "شرح الموطأ" :"تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر : ما هذه المناجاة؟ فقال أحدهما : إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال علي : لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ الآية، فقال عُمرُ لعليّ : صدقت أطال الله بقاءك".
فقيل : إن عمر أول من دعا بكلمة "أطال الله بقاءك".
وقرأ الجمهور ﴿ فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام ﴾ بصيغة جمع ﴿ العظام ﴾ فيهما.
وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿ عظماً.
والعَظْمَ ﴾
بصيغة الإفراد.
وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه ﴿ أحسن الخالقين ﴾ أي أحسن المنشئين إنشاءً، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة.


الصفحة التالية
Icon