وقال القرطبى :
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾
قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم "شِقوتنا" وقرأ الكوفيون إلا عاصماً "شقاوتنا".
وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن.
ويقال : شقاء وشقاً ؛ بالمد والقصر.
وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ؛ فسمى اللّذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤدّيان إليها، كما قال الله عز وجل :﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] ؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار.
وقيل : ما سبق في علمك، وكتب علينا في أمّ الكتاب من الشقاوة.
وقيل : حسن الظن بالنفس وسوءُ الظن بالخلق.
﴿ وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾ أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى.
وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار.
ويدلّ على ذلك قولهم ﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت.
﴿ فَإِنْ عُدْنَا ﴾ إلى الكفر ﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسنا بالعَوْد إليه فيجابون بعد ألف سنة :﴿ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ أي ابْعُدُوا في جهنم ؛ كما يقال للكلب : اِخْسأ ؛ أي ابْعُدْ.
خسأت الكلب خَسْئاً طردته.
وخسأ الكلبُ بنفسه خسوءاً ؛ يتعدّى ولا يتعدى.
وانخسأ الكلب أيضاً.
وذكر ابن المبارك قال : حدّثنا سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل جهنم يَدْعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون.
قال : هانت والله دعوتهم على مالك وربِّ مالك.
قال : ثم يدعون ربهم فيقولون :﴿ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾.
قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين.
قال : ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها.