وقد فعلوا ما هو إيمان في الحقيقة، فإن قيل إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي فكيف يصح أن يقول في جميعهم ﴿وَمَا أولئك بالمؤمنين﴾ مع أن الذي تولى منهم هو البعض ؟ قلنا إن قوله :﴿وَمَا أولئك بالمؤمنين﴾ راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، وأيضاً فلو رجع إلى الأول يصح ويكون معنى قوله :﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ﴾ أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم فيظهر بعضهم لبعض الرجوع عما أظهروه، ثم بين سبحانه أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول، ونبه بقوله تعالى :﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أوشكوا فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا، وفي ذلك دلالة على أنه ليس بهم اتباع الحق، وإنما يريدون النفع المعجل، وذلك أيضاً نفاق.
أما قوله تعالى :﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ ففيه سؤالات :
السؤال الأول : كلمة ( أم ) للاستفهام وهو غير جائز على الله تعالى والجواب : اللفظ استفهام ومعناه الخبر كما قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا.. ( وأندى العالمين بطون راح ) (١)
السؤال الثاني : أنهم لو خافوا أن يحيف الله عليهم فقد ارتابوا في الدين وإذ ارتابوا ففي قلوبهم مرض، فالكل واحد، فأي فائدة في التعديد ؟ الجواب : قوله :﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ إشارة إلى النفاق وقوله :﴿أَمِ ارتابوا﴾ إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب، وقوله :﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ﴾ إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه.