واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة، والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا﴾ يدل على الرؤية، وأما الاستكبار والعتو، فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئاً محالاً، لا يقال إنه عتا واستكبر، ألا ترى أنهم لما قالوا :﴿اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ﴾ لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتواً واستكباراً، بل قال :﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ] بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقاً به، ولكنه يطلبه على سبيل التعنت.
وبالجملة فقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة، ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو، لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقاً، وهؤلاء طلبوها امتحاناً وتعنتاً، لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة.
المسألة الثالثة :
إنما قال ﴿فِى أَنفُسِهِمْ﴾ لأنهم أضمروا الاستكبار ( عن الحق وهو الكفر والعناد ) في قلوبهم واعتقدوه كما قال :﴿إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه﴾ [ غافر : ٥٦ ] وقوله :﴿وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾ أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا ( عتا ) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه، يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
أما قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الملئكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً﴾ فهو جواب لقولهم :﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة﴾ فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وههنا مسائل :
المسألة الأولى :


الصفحة التالية
Icon