فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً. هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشراً ليؤدي دوره على قيادة البشر. والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة. فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان!
وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه. فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل :﴿ أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها ﴾ !
والله لم يرد لرسوله ﷺ أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة. لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته ؛ ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته. فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه : لقد كان رسول الله ﷺ مكفي الحاجة، لا يعاني صراع العيش، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته، وتكاليفه، فلم يعوقه عائق مما أعاني.. فها هو ذا رسول الله ﷺ يعمل ليعيش، ويعمل لرسالته، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة وقدوته أمامه ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله ﷺ - كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة. فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله، فكان كالريح المرسلة في جوده، حتى يستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس ؛ وكي لا يقولن أحد بعد ذلك : إنما نهض محمد ﷺ برسالته، لأنه عاش فقيراً لا يشغله من المال شاغل، فها هو ذا المال يأتيه غزيراً وفيراً، ولكنه يمضي في دعوته كذلك. شأنه يوم أن كان فقيراً.
وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء، وواهب الكثير والقليل؟ ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون!


الصفحة التالية
Icon