قلت : أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعاً وأصابع ؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا ؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار ؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجّر الله له عيوناً، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال قيس بن الحجاج : لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له : أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم : وما ذاك؟ فقالوا : إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها ؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل ؛ فقال لهم عمرو : هذا لا يكون في الإسلام ؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله.
فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء.
فلما أرى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب : إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا.
وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه.
وكتب إلى عمرو : إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي.
فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت إنما تجري من قِبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يُجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.