أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فالأمر يختلف. فالنبي صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء.
فما أطولَ صبر نوح على قومه، وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء :﴿ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [ هود : ٣٥ ].
فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّي نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم، لكن، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، ولا فائدة منهم، ولا من أجيالهم المتعاقبة، وبعد أنْ قضى نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم، حيث لا أملَ في هدايتهم، فقال :
﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦-٢٧ ].
ومحمد ﷺ يقول في محاورته مع كفار مكة :﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ سبأ : ٢٥ ].
سبحان الله ما هذا التواضع، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله، وحينما يتكلم عنهم يقول ﴿ تَعْمَلُونَ ﴾ [ سبأ : ٢٥ ] فيُسمِّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملاً، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعاً منه ﷺ. أ هـ ﴿تفسير الشعراوى صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon