ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا :﴿ولا تنس﴾ أي تترك ترك الناسي ﴿نصيبك من الدنيا﴾ ترك المنسي، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف ؛ وعن علي ـ رضى الله عنه ـ : ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة.
ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد، وكانت النفس مجبولة على الشره، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا :﴿وأحسن﴾ أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج، والإنفاق في جميع الطاعات ﴿كما أحسن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال، المتردي برداء العظمة والجلال ﴿إليك﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك.
ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف، قالوا :﴿ولا تبغ﴾ أي لا ترد إرادة ما ﴿الفساد في الأرض﴾ بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل :﴿إن الله﴾ أي العالم بكل شيء، القدير على كل شيء ﴿لا يحب المفسدين﴾ أي لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم.
ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته :﴿قال إنما أوتيته﴾ أي هذا المال ﴿على علم﴾ حاصل ﴿عندي﴾ فأنا مستحق لذلك، وذلك العلم هو السبب في حصوله، لا فضل لأحد عليّ فيه - بما يفيده التعبير بإنما، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو، وقد قيل : إن ذلك العلم هو الكيمياء.


الصفحة التالية
Icon