و تركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند اللّه من الثواب "لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً" علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها، ولا حول لهم عنها، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية، وأنها من صنع البشر وهي من صنع اللّه وإبداعه الذي أتقن كل شيء، فلا يقدر أن يصفها واصف، ومن بعض محاسنها أنها "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" ويكون أهلها "خالِدِينَ فِيها" أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف "نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ" ٨٨ في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة، وهذه أيضا مكررة في الآية ٢٠ من سورة الزمر المارة وفي غيرها، قال ابن عباس : هي من الدرّ والزبرجد والياقوت، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم "الَّذِينَ صَبَرُوا" على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله "وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" ٥٩ بكل أمورهم لا على غيره، ولما أمر صلّى اللّه عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا