ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه، دل بفاء السبب على أن التقدير : وهذا ضلال منهم بإرادة الله، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى :﴿فمن يهدي﴾ أي بغير إرادة الله، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال :﴿من أضل الله﴾ الذي له الأمر كله، ودل بواو العطف على أن التقدير : ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله :﴿وما لهم﴾ وأعرق في النفي فقال :﴿من ناصرين﴾ أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من الخذلان وأسر الشيطان، ومما يسببه من النيران، ونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه، أو لأنه ورد جواباً لنحو ﴿واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون﴾ [ مريم : ٨١ ] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد ﴿لا تجزي نفس عن نفس﴾ [ البقرة : ١٢٣ ]، و ﴿أن الكافرين لا مولى لهم﴾ [ محمد : ١١ ] و ﴿فما له من قوة ولا ناصر﴾ [ الطارق : ١٠ ] في أمثالها.
ولما تحررت الأدلة، وانتصبت الأعلام، واتضحت الخفايا، وصرحت الإشارات، وأفصحت ألسن العبارات، أقبل على خلاصة الخلق، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته :﴿فأقم وجهك﴾ أي قصدك كله ﴿للدين﴾ أي نصباً بحيث تغيب عما سواه، فلا تلتفت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره، وقوم له وجهه.