ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه...
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب :﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية ﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن ﴿لقوم﴾ أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه ﴿يؤمنون﴾ أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر، والاعتماد في الرزق على من قال ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [ القمر : ١٧ ] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق، لأن " أفضل العبادة انتظار الفرج " بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه، وهو القدير العليم.


الصفحة التالية
Icon