والفاء في قوله فمنهم مقتصد } تدلّ على مقدر كأنه قيل : فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي.
وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب ﴿ لمّا ﴾ أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب ﴿ لما بالفاء كما في مغني اللبيب ﴾.
والمقتصد : الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله ﴿ وما يجحد بآياتنا إلاّ كل خَتّار كفور ﴾ ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت ( ٦٥ ) ﴿ فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ﴾ وقد يطلق المقتصد على الذي يتوسط حالُه بين الصلاح وضده.
كما قال تعالى :﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] والجاحد الكفور : هو المُفرط في الكفر والجَحد.
والجُحود : الإنكار والنفي.
وتقدم عند قوله تعالى :﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ في سورة الأنعام ( ٣٣ ).
وعلم أن هنالك قسماً ثالثاً وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون.
قال في سورة فاطر ( ٣٢ ) ﴿ فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ﴾ وهذا الاقتصار كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم...
من العبيد وثلث من مواليها
أي : والثلث الآخر من أنفسهم.
والخَتَّار : الشديد الختر، والختر : أشدّ الغدر.
وجملة وما يجحد } إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه.
والمعنى : ومنهم جاحد بآياتنا.
وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله ﴿ بآياتنا ﴾ التفات.
والباء في ﴿ بآياتنا ﴾ لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله ﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ [ المائدة : ٦ ]، وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً...
وقوله تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٢١ صـ ﴾