ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة
تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى : أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات
العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال
إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو
في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها.
وأقرب
الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما
سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به.
فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن
لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً
ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره.
وكذلك غذا كانت
معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
ومناسبة قوله :﴿ ليعذب الله المنافقين ﴾ [ الأحزاب : ٧٣ ] الاية لهذا المحمل نظير مناسبته
للمحمل الأول.
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني
جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس
متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث :" إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة "
أي إذا انقرضت الأمانة كان انقرائها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة
الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال.
والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة :" حدثنا رسول الله ﷺ حديثين رأيت أحدهما
وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم
علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل


الصفحة التالية
Icon