فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية.
فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئاً، والمشبه به غير معقول.
قلت : الممثل به في الآية، وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض، والمفروض أن يتخيل في الذهن.
كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت على السموات والأرض والجبال ﴿ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴾. انتهى.
وقال أيضاً : إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها، وهو ما تأتى من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة.
كما قال :﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد.
والمراد بالأمانة : الطاعة، لأنها لازمة للوجود.
كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز.
وحمل الأمانة من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حامل لها.
ألا تراهم يقولون : ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملاً لها لا يؤديها.
ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.


الصفحة التالية
Icon