أَمْشاجٍ.. نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً »
أي لأجل أن نبتليه جعلناه سميعا بصيرا، أي يسمع بعقل، ويبصر بإدراك، وهذا هو السر في العدول عن سامع ومبصر، إلى صيغة المبالغة « سَمِيعاً بَصِيراً ».
والإنسان ـ بهذا العقل المدرك المميز للأشياء ـ سلطان على نفسه، مالك التصرف كيف شاء.. فله أن يؤمن أو يكفر، وله أن يطيع أو يعصى، وله أن يتقدم أو يتأخر.. وليس هذا شأن الكائنات الأخرى، حتى الملائكة ـ إنها جميعها على وجه واحد، لا تستطيع، بل لا تحاول أصلا، أن تخرج عن هذا الوجه الذي أقامه اللّه عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :« ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ».. (١١ : فصلت) إن اللّه سبحانه وتعالى يعرض الأمانة هنا على السموات والأرض.. وإنه سبحانه يدعوهما إلى أن يمتثلا أمره.. إما طوعا، وإما كرها.. والطوع، هو التسليم المطلق منها لأمر اللّه.. والكره هو أن يكون لهما الخيار في إمضاء مشيئة اللّه فيهما، وهذا الخيار لا يصير بهما آخر الأمر إلا إلى حيث أراد اللّه فهو خيار في ظاهره، إكراه في باطنه، فهى مكرهة في صورة طائعة.. وقد أبت السماء والأرض قبول الأمانة.. فقالتا :« أَتَيْنا طائِعِينَ » أي مستسلمين، لا إرادة لنا مع إرادة اللّه، ولا اتجاه لنا إلى غير ما أقامنا اللّه عليه..
أما الإنسان، الذي حمل الأمانة، فهو ـ كما يبدو في ظاهره ـ عالم، مريد، يعمل بعلمه، وبإرادته.. وهما صفتان من صفات اللّه سبحانه وتعالى، استحق بهما أن يكون خليفة للّه في الأرض.. الأمر الذي لم تنله الملائكة حين قالوا :« أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » وقد ردّهم اللّه سبحانه بقوله :« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ».


الصفحة التالية
Icon